حدثنا مالك قال:… “برادايم الإسلام الحضاري وعبء الجيل الحالي” (3)
معادلة الحضارة، الثلاثة عندما تجمع..
لأن مالك بن نبي كان يمتلك نهجا علميا في التفكير يستكشف الموازنات الدقيقة التي يقوم عليها الكون، فإن رؤيته للحضارة لم تخرج عن تلك الرؤية (التوازنية) التي هي أبعد ما يكون عن منطق (الوصايا والأوامر ) التي أترعت بها عقولنا منذ قرون.
قبل أن أتحدث عن معادلة الحضارة أحب أن أشير إلى الفرق الكبير – كجزء من باردايم الاختلاف- بين منطق الوصايا المتسلسلة والأوامر المتتابعة -التي نهجها الفكر السائد بكافة أطيافه في الوصايا العشر أو العشرين أو الثلاثين أو أي عدد آخر- وبين المعادلة المتوازنة التي اختفاء أي عنصر من عناصرها سيلغيها تماما.
منطق الوصايا منطق رتيب وشبه سكوني، هناك أولويات عليك أن تخوضها، الوصية الأولى أولا وبعدها الثانية وهكذا، تراتبية بغيضة تضيع فحوى الأمر كله ..
مع “منطق المعادلة” هناك فهم شمولي للأمر لا تراتب هناك، إنما أنت طرف في معادلة يستلزم وجود كل أطرافها ليحدث التفاعل ويصل إلى هدفه النهائي .
في معادلة الحضارة التي هي واحدة من اكتشافات مالك بن نبي يقف الإنسان كفاعل أساسي، كعنصر مستقل مؤثر ومتأثر ببقية العناصر ..
أبدع مالك في ربط كل عنصر بشبكة التفاعل التي تؤدي -إذا ما توازن كل عنصر فيها- إلى تكوين الناتج النهائي : الحضارة ..
وأبدع أيضا في شرح كل عنصر من العناصر الداخلة في تلك المعادلة : الإنسان . التراب . الوقت ..
وكان ذلك كله عكس التيار السائد من الصراخ (الديماغوجي والأيديولوجي والوعظي) الذي يعامل كل شيء بطريقة تعبوية كما لو كان يملأ استمارات التجنيد أو يوزع صكوك الغفران ..
الانسان؟ به فأبدأ ..
الإنسان في معادلة الحضارة هو إنسان النهضة -إنسان (الضد) من إنسان (الانحطاط )، إنه إنسان الحركة ضد إنسان الركود الذي وصفه مالك بأنه (إنسان القلة)- يقنع من كل شئ بالقليل، أو هو إنسان النصف – إذ هو دائما في منتصف الطريق، منتصف فكرة، منتصف تطور- وهو لا يعرف أن يصل إلى هدف، إذا هو ليس نقطة الانطلاق في التاريخ كرجل الفطرة ولا نقطة الانتهاء كرجل الحضارة، بل هو نقطة التعليق في التطور وفي التاريخ وفي الحضارة، هذا الإنسان الذي هو (جوهر الانحطاط) ونتيجته في آن واحد هو الذي يهدف “مالك” إلى تغييره لتبدأ الشرارة بتحريك التفاعل..
كيف؟ .
يحدثنا مالك فيقول: بالتوجيه، توجيه الثقافة والعمل ورأس المال .
سؤال سيسقط فيه (البعض) بامتياز
الحديث عن الثقافة في فكر مالك وباردايمه المختلف حديث مهم وعميق، ولعله من الصعب الغوص فيه في هذا المقام , لكن أكثر ما أحب الإشارة إليه هنا , هو أن موضوعة الثقافة التي احتلت قدرا كبيرا من اهتمام مالك – ومن عناوين كتبه ، أساسا – وكانت محورا مهما في رسالته ..أقول هذا المحور ، الموجود بقوة في فكر مالك ، يقابل بمساحة بياض فارغة في الفكر التقليدي الذي لن ولا يلتفت لهذا المصطلح كثيرا ، بل انه لن يهتم بتعريف المصطلح آو يكترث له – ولو أننا اختبرنا بعض وجوه ونجوم الفكر السائد بسؤال عن تعريف الثقافة ، دون أن نعطيهم فرصة لمراجعة المصادر ، لكان جوابهم على الأغلب يقع بين الشهادة الجامعية والحصول عليها ، وبين المعلومات العامة التي تؤهل للفوز بجوائز المسابقات ! .
..مع مالك الثقافة ليست إكسسوارا زائدا ، ولا هي محض تحصيل حاصل – إنها أساسا من أساسيات توجيه الإنسان في معادلته للدخول في مضمار الحضارة .
بعيدا عن كل التعريفات السائدة ، حتى في منظورها الغربي البرجوازي الذي يركز على الفرد – أو الغربي الاشتراكي الماركسي الذي يركز على المجتمع ، يقدم مالك تعريفا للثقافة يربط فيه بين الفرد والمجتمع – باعتبار أن الثقافة هي (نظرية في السلوك ) ، أكثر منها نظرية في المعرفة : ( مجموعة من الصفات الأخلاقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته ، كرأس مال أولي في الوسط الذي ولد فيه ، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته )
انه ما أسميته سابقا: القيم السلوكية ، القيم المحركة التي تدخل في لا وعي الناس المنتمين لمجتمع معين وحضارة معينة بغض النظر عن ما حازوه من شهادات علمية .
يضرب مالك مثاله المميز مرارا وتكرارا عن مفهومه للثقافة: فالطبيب الإنجليزي والراعي الإنجليزي تربط بينهما مجموعة من الروابط في السلوك إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي يتجلى فيه ما يسمى (الثقافة الإنجليزية ) ، أكثر من الترابط الموجود بين الطبيب الإنجليزي ، وطبيب ينتمي لدولة أخرى ، ( من دولنا مثلا ؟؟) ، رغم تطابق الشهادة العلمية والمهنة والوظيفة .
وهو مرة أخرى ، يوضح بسعة اكبر لوظيفة الثقافة ، فيمثل بوظيفة الدم ، (الذي يتركب منه الكريات الحمراء والبيضاء ، وكلاهما يسبح في سائل واحد هو البلازما ليغذي الجسد , فالثقافة هي ذلك السائل في جسم المجتمع ، يغذي حضارته ، ويحمل أفكار ( النخبة ) كما يحمل أفكار (العامة )، و كل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة).
هذا هو المعنى العميق للثقافة عند مالك ، إنها البلازما الذي يسيل في الإنسان الذي هو العنصر الأول في معادلة الحضارة . فكيف يمكن توجيه الثقافة (بمعناها هذا ) نحو تغيير الإنسان ؟. يحدثنا مالك فيقول يجب بادئ الأمر تصفية عاداتنا وتقاليدنا إطارنا الأخلاقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة ورمم لا فائدة منها ، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة .
..وأن هذه التصفية لا تتأتي إلا بفكر جديد ، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد ، هو وضع النهضة .
ونخلص من ذلك إلى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين :
الأولى : سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي .
الثانية : ايجابية تصلنا بروافد المستقبل.)
و بين الأولى و الثانية– تخلية الماضي لتحلية المستقبل – تقع قصة الباردايم وتحوله الذي نرى أن فكر مالك هو جزء منه ، ونرى انه لم ينجز بعد ..(وأن جزءا من إنجازه يقع علينا نحن ، نحن: الجيل الحالي) .
ويعطي مالك مثالا لتخلية وتحلية الحضارة الغربية عند انطلاق نهضتها .. فتوماس الاكويني ،حسب مالك ، هو الذي قام بالتنقية لتكوين الأساس الفكري للحضارة الغربية , عبر ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين – الثورة التي هي في حقيقتها مظهر للتجديد السلبي لتصفية الثقافة مما كان يراه فكرة إسلامية (دخيلة )أو ميراثا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية .
أما التجديد الايجابي ، حسب مالك أيضا ، فقد جاء به ديكارت الذي (رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي ، الذي يبنى على المنهج التجريبي ، ذلك الطريق الذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم المدنية الحديثة ).. إنه نفي للسلبي ، وحرق له ، وإلغاء له من كل موروث ثقافي ..مقابل تقديم ألايجابي , واثبات لقيم أخرى ، تحل محل السلبي ..
مالك على قمة جبل ، و آخرون…
لست هنا بصدد استعراض كل ما ذكره مالك بن نبي في تفصيلات المعادلة التي اكتشفها وصاغها ، لكن أحب أن أوضح حجم الهوة الفاصلة بينه وبين الفكر السائد ..
فمالك بن نبي يحدد أربع عناصر للمركب الثقافي :أولا :- الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية .
ثانيا:- عنصر الجمال لتكوين الذوق العام .
ثالثا: – منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام – العقل التطبيقي : الإرادة والفاعلية .
رابعا:- الفن التطبيقي ، أو حسب التعبير الخلدوني : الصناعة .
كل عنصر من هذه العناصر يقف بالضد وبالتمايز من المفاهيم التي تروج منذ قرون ، فالأخلاق هنا شبكة علاقات اجتماعية تغير النسيج الثقافي ، مقابل صورة سائدة للترغيب والترهيب تزرع بها الأخلاق دون جدوى دون محاولة لفهم ذلك أو لزرعه ضمن موضعه الثقافي – الاجتماعي ، ومقابل عنصر الجمال ، (والذوق العام ) ، هناك الحرص على القبح والرداءة وعدم التناسق بحجة ادعاء زهد مزيف في الدنيا أو اعتبار البهرجة الزائفة معيارا للجمال، ومقابل العقل التطبيقي – الفعال – هناك عقلية (لا تفكر لها مدبر ) وعقلية انتظار سفن التواكل لكل ما تأتي به رياح القضاء والقدر والقسمة والنصيب ..
ومقابل عنصر الفن التطبيقي (الصناعة ) هناك مقولة تنسبها المؤسسة التقليدية للسنة النبوية وتروج لها وهي ( تسعة أعشار الرزق في التجارة ) بل هناك دعوة من بعض (المفكرين !) لأصحاب الوظائف بترك مهنهم (..المهندس والطبيب والمعلم مثلا ) والانخراط بالتجارة والبيع والشراء ومن البديهي أن التجارة المقصودة هي تجارة ( الترانزيت ) ، أي تجارة تنقل بضائع مصنوعة في مكان آخر ، وتجلبها ليستهلكها إنسان القلة وإنسان الانحطاط وإنسان الجمود : إنسان الاستهلاك الذي هو عالة على الإنسانية ومنجزاتها .
كل ذلك حدثنا به مالك وقاله ، لكن كل ذلك ضاع وسط الأصوات الأخرى المشوشة ، أصوات الفكر السائد بجناحيه السياسي والوعظي ، وكل ذلك يجب أن يقف الآن ، ليتعرف جيلي من جديد على ما حدثنا به مالك..وهو كثير .
العمل و رأس المال ..
بنفس الطريقة المختلفة ، تحدث مالك عن جوانب التوجيه الأخرى التي تغير ( الإنسان )، كجزء من المعادلة التي تؤدي إلى الحضارة .. فبعد توجيه الثقافة ، بتعريفها الذي حدده مالك ، يأتي توجيه العمل ،وتوجيه رأس المال ، كضلعين مكملين وناتجين لفكرة الثقافة – ففكرة العمل عند مالك بن نبي تأخذ طابعا منهجيا يختلف تماما عن الرؤية التقليدية للعمل التي تتعلق (بالكسب ) لا أكثر و لا اقل – غاية ما يقدمه الفكر السائد هو أن العمل عبادة بمعنى أن عليك أن تعيل نفسك وتكسب قوتك بنفسك – مع فكر مالك ، العمل هو (الإمساك بعصا التاريخ )، ومسألة ( الأجر ) مسألة ثانوية أمام موضوع ( الجهد الاجتماعي ) الذي يجمع كل أنواع العمل باختلاف المسميات ، نحو عملية تغيير اجتماعية- حضارية حقيقية .
وبنفس المفهوم العميق ،يتحدث مالك عن ( رأس المال) – ليس بالطريقة الوعظية – النفعية التي انغمس فيها الفكر السائد الذي لا يطالب الأغنياء إلا بشيئين : الزكاة ، والامتناع عن الربا ( ..مع تساهل في بعض أنواعه عند البعض عند الحاجة باستخدام الحيل الشرعية ) . وفي هذه الحالة ، (رأس المال ) هو ليس رأس مال بالمعنى العلمي للكلمة ، إنه مجرد (ثروة ) – أما مالك فيتحدث عن رأس المال الاجتماعي ، وهو المعنى الذي لا يتحقق إلا عندما تكف ( الثروة ) عن كونها مجرد ثروة فردية يدفع أصحابها عنها الزكاة وينتهي أمرها ، إلى أن تصير رأس مال يتحرك وينشط على مستوى الفاعلية الاجتماعية .
بالنسبة لمالك ،أي مال يكون كاسدا حتى لو تضاعف ما دام لا يساهم في تحريك المجتمع والدفع به إلى الأمام – ويكون رأس مالا حقيقيا حتى لو لم يحقق أرباح مباشرة ، ما دام يساهم في رقي المجتمع والدفع به إلى الحضارة ..
بعيدا عن منطق الوعظ و مفهوم الفواتير ونسبة العشر ونصف العشر يذهب مالك إلى عمق الأمر : قبل الزكاة ، قبل النسب الحسابية هناك وظيفة اجتماعية للمال عليه أن يؤديها .وظيفة تدفع بالإنسان إلى أن يكون عنصرا فاعلا في معادلة الحضارة .
هذه المكونات الأساسية هي التي يجب توجيهها بشكل معين ليستفيد الإنسان :
الثقافة . العمل . رأس المال . ليصير الإنسان مؤهلا للمشاركة في معادلة الحضارة
من التراب الى الضوء
العنصر الثاني في معادلة الحضارة هو التراب .
والتراب مصطلح يستخدمه مالك بذكاء شديد . إنه لم يقل مثلا (أرض ) أو أي تعبير قريب ، لكن كلمة ( تراب )هنا ووضعها في المعادلة بالقرب من العنصر الأول الإنسان ، يذكر بالعلاقة الأساسية بين الإنسان – وبين التراب – باعتبار أن الإنسان أصله تراب ..
..التراب هنا هو إمكانية أن يتحول إلى أي شيء آخر : إنه الثروة الكامنة ، المعجزة الكامنة .التراب هو المرحلة الأولية التي يمكن أن تؤدي إلى البوار أو إلى الخصب . إلى التصحر أو إلى الحقول الوفيرة .
و (الإنسان )هو الذي يقرر – بفاعليته , أو بسلبيته – اتجاه التحول ..
يضرب مالك مثالا للاستدلال على أهمية عنصر التراب وعلاقته التبادلية مع “الإنسان ” .. وهو مثال متكرر ومتجدد إلى الآن – مادمنا نعيش في عصر الانحطاط إن لم تكن دلالاته صارت أقوى وأشد – إنه مثال التصحر الذي يقول إنه كان جنوب مدينة تبسة في طفولته ، ثم إذا به يصير شمالها خلال عقود. والتفسير المباشر لهذا قد يكون متعلقا بعوامل البيئة وتغيرات الجو ، لكن – من ناحية أخرى – هناك معامل يتعلق بالإنسان وموقفه من هذه التغيرات البيئية (فتقدم الصحراء ) دليل قاطع على (تأخر الإنسان ) وتخلفه –دليل على أن إنسان ( القلة ) و(المنتصف ) غير قادر على مواجهة التحدي ، وكل ما يفعله أمام تقدم الصحراء هو أن ينقل مواشيه وحيواناته وأسماله إلى مكان آخر , بانتظار أن تصله الصحراء ..كل رد فعله هو أن ينتقل من مكان إلى آخر …
يقارن مالك رد الفعل هذا ، الذي يتهدد كما يقول 80% من العالم الإسلامي من الباكستان إلى الأناضول إلى الحجاز إلى شمال أفريقيا ، يقارن هذا بأزمة مماثلة مرت بفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر (-حيث كانت رمال الشاطئ الأطلنطي والمستنقعات الضارة تهدد مصالح أهلها وصحتهم ,..ولكن سكان تلك المنطقة انطلقوا بهمة وصبر يوقفون الرمال عند حدها ،وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا ، وقضوا عشرين سنة يسدون الطريق على الرمال من مدينة (بوردو ) إلى مدينة (بياريتز ) ..فانتصروا على الرمال التي أرادوا صدها ، وكانت نتيجة انتصارهم ابعد مما كانوا يتوقعون ، فقد كانت تلك المنطقة أفقر المناطق وأكثرها وأخطرها على الصحة في فرنسا ، فأصبحت بما تمتعت به الأشجار الكثيرة ، ذات حركة اقتصادية ممتازة ، إذ أصبحت أول منتج في العلم لزيت (التربنتين ) المستخرج من تلك الأشجار ، وأصبحت ملجأ صحيا للمرضى من جميع أنحاء العالم ..)
ثم ذكر أمثلة أخرى مماثلة عن روسيا .. وهولندا التي (ثلث أرضها مصنوعة بأيدي أهلها )
لكن مالكا لم يقصد الأرض بهذا المعنى المباشر فحسب ،لقد كان يقصد كل ما هو قابل للاستثمار ، في هذا الكون ما هو قابل للاستخلاف في هذا التراب الذي منه خرجنا واليه نعود – وبين الخروج والعودة هناك اختبار الاستخلاف .
الأمر لا يتعلق بالثروات الخام التي يمكن استخراجها من باطن الأرض – بل يتعلق بالدرجة الأولى بقدرة البيئة على تحفيزنا ، بمقدار التحدي الذي ينشأ في أعماقنا ومقدار الاستجابة الذي يظهر علينا ..
التراب بالتأكيد ليس الثروات الخام التي وقعنا عقود استخراجها وجاءت الشركات العالمية بعمالها ومهندسيها وخبرائها ، وجلسنا نقرض الأرباح و نعيد تدويرها في بورصات الاستثمار التي نعرف (أو لعلنا لا نعرف !) لمن تعود في النهاية بأرباحها ..
التراب ليس ذلك أبدا .انه التحدي الايجابي . ليس (مفتاح )المصنع الذي نشتريه دون أن نمتلك خبرة تصميمه وتراكم خبرة تشغيله وأخلاقيات التعاون والانسجام التي هي من ضرورات العمل فيه .
التراب ليس مجرد ارض بكر مليئة بالثروات وتعال واحفر واستخرجها . على العكس .انه قد يكون مجرد جزر صغيرة وصخرية ومتناثرة وخالية من الموارد الطبيعية في داخلها – ولكن وضعها الصحيح في معادلة الحضارة مع ( الإنسان – الفاعل )جعلها عنصرا شديد الأهمية ….(حدث ذلك مع اليابان كمثال مهم و واضح).
بالتضاد من ذلك ، فان أرضنا المليئة بالثروات الطبيعية ، وضعت في معادلة انحطاطنا ، وتفاعلت مع (إنسان – القلة ) و (إنسان السلب والقضاء والقدر ) – فكان الناتج مجتمع الاستهلاك الذي لا ينتج غير الخدر والتثاؤب والسرف السخيف والتبذير السفيه ..
( وربما لو كان جوف الصحراء عندنا خاليا من النفط ، لكان في ذلك تحديا أفضل ، ربما لكان ذلك حافزا للإنسان أن يصير فاعلا ..فلنتفاءل إذن بقرب نفاد كل شيء ..)
..مع التراب ، الأمر قابل لكل الاحتمالات ،ويعتمد على الإنسان داخل تلك المعادلة . قد يكون الناتج المستخرج من التراب شاسعا بقدر سد مائي ضخم يروي الصحراء ويقهر البيئة ، أو تكوين أمطار صناعية تغير الظروف المناخية وتجلب الخصب والغذاء لجياع العالم وقد تكون طاقة بديلة لهذا العالم الذي يرتجف نصفه بردا وجوعا في الشتاء القارص ..
.. وقد تكون شريحة (كومبيوتر ) لا تكاد ترى بالعين المجردة ، ولكنها تحوي كل معارف البشرية وتراثها الضخم ..
كل هذا تراب ، ولكن أي تراب ، في معادلة الحضارة ..
– ولعل علي أن اذكر هنا ، أن التراب ، بهذا المعنى العملاق الواسع الذي يعني تحفيزا لقدرات الإنسان وفاعليته ، لا يمكن أن يكون محض مشروعا صغيرا – يستثمر طاقات الشباب ويفرغها في إطار ضيق ..انه مشروع حضارة ضخم يستند على (باردايم مختلف ) ، على ثورة فكرية غيرت لب هذا الإنسان المشارك – بالسلب والإيجاب ، بالنسف والبناء ، بالتحلية والتخلية ، وليس مجرد مجموعة شباب قررت كسب الأجر والتعاون على البر والتقوى وتمضية وقت مفيد .
بعبارة أخرى ، عنصر ” التراب ” ، قد يذكر ، ضمنا بالزراعة . لكن الأمر اكبر بكثير من مجرد الزراعة.
مع كل الاحترام لكل الجهود.
إن لم تقطعه قطعك..
ومع العنصر الثالث – الوقت – يتحد العنصران الأوليان في محك التفاعل – وينصهران في بوتقة الحيوية .
كما في أي معادلة ، وفي أي تفاعل ، لن تتفاعل العناصر حقا إلا عندما يدخل (عامل الوقت ) على التفاعل . الفرق بين وجود هذا العامل في أي معادلة أو عدم وجوده هو الفرق بين التنظير والواقع .
الفرق بين كلمات جامدة على الأوراق ، وبين التفاعل الحقيقي الذي سيؤدي إلى ناتج (ملموس ) .
يصدق هذا على أي تفاعل بالإطلاق . أي عنصرين كيماويين لكي يدخلان في خضم تفاعل ، يحتاجان إلى عامل الوقت ( ولو كان الأمر أجزاء من الثانية ) – لكن عامل هو الذي يحدد إن كان هذا التفاعل قد صار تفاعلا حقا أو أنه لم يبدأ .
الأمر مع المعادلة الحضارية أكبر وأهم – لن يكون هناك أي تفاعل بين الإنسان والتراب ولن يؤدي شيء إلى الحضارة إذا لم يدخل الوقت كعنصر أساسي في التفاعل – والوقت ( الحضاري ) هنا هو ليس أجزاء الثواني والدقائق والساعات التي ستمر في كل الأحوال (أي الزمن بالمعنى الفيزيائي ) ، كما أن الأمر لا يتعلق بالمفهوم الفلسفي بمختلف تدرجاته ( من المفهوم الذي يعتبر الزمان حاوية الحوادث ، إلى الذي يعتبره مجرد وهم أو تصور ) .. ولا حتى الزمن بالمفهوم النفسي (الذي يجعلك تشعر أن الوقت يمضي بسرعة (أو يطير ) عندما تستمتع به ، ويكون بطيئا جدا في أحوال أخرى) .
الوقت ، بالمفهوم الذي تحدث عنه مالك في معادلة الحضارة ، هو الذي تتوهج أهميته فجأة ، هو الذي يصير رصيدك ورأس مالك الأساسي ، إنه حبة الرمل التي تهبط من الخانة العالية إلى السفلى في الساعة الرملية ، وأثناء هبوطها يمكن لها أن تكون منجما تستخرج منه أنفس المعادن فإذا وصلت للخانة السفلى ولم تستخرج منها شيئا ، انتهت كحبة رمل عادية ..
الوقت هو ، كما يقول مالك ، في واحدة من إشراقاته العبقرية “نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل ..”
” فهو يمر خلال المدن يغذي نشاطها بطاقته الأبدية ،أو يذلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء ، وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب ومجال كل فرد ، بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيض , ولكنه في مجال ما يصير (ثروة ) ، وفي مجال آخر يتحول عدما “
.. إنه نفس النهر يمر على الجميع ، كل نقطة ماء فيه تذهب إلى غير رجعة ، وكل نقطة ماء فيه تشبه الأخرى ، ومع ذلك فهي مختلفة عنها تماما ..
أمام ذلك النهر الذي يمر منذ الأزل يتعامل الناس بأسلوب مختلف ، تبعا لموقعهم من الحضارة والانحطاط فالبعض يتأملونه ويتثاءبون ، والبعض يجعلونه مكبا لنفاياتهم ، وآخرون يجعلون منه وسيلة لنقل الأمراض .وآخرون يبذلون الجهد في تحويله إلى ( ساقية ) أو محض (جدول ) صغير ، وآخرون يستثمرون فيه عبر بناء الكازينوهات والمطاعم على ضفافه ( من أجل الماء والخضرة والوجه الحسن )
لكن آخرين ، سيجعلون من كل قطرة فيه منجما . سيكون هذا النهر مصدرا لتوليد الطاقة ، وسيعاد تدوير كل قطرة منه ، والاستفادة من كل ذرة منها ، حتى تكاد دورة الماء في الطبيعة لا تنتهي أبدا ،ويحولون – عبر استثماره – الأرض اليباب ، الأرض – البوار ، إلى أرض الحضارة ، أرض الحياة ..
حالنا مع الوقت ، كحالنا مع النهر ، بعضنا لا ينشد غير الهباء فيه ، معظمنا لم يخرج بعد من زمن الرعيان ،وليس هناك أكثر من الوقت لتضييعه ، ليس هناك ما هو ارخص منه لهدره ..
هنا لا أتحدث عن ” احترام الوقت ” كسلوك حضاري فحسب ، رغم أهميته ، لكني أتحدث عن الهوس بذلك – الأمر أكبر من أن تأتي على موعدك ” بالثانية”. الأمر هو ماذا تفعل بموعدك هذا و ما تفعل بوقتك كله. أتحدث عن استشعار ذلك كما لو كنت تلهث ، كما لو كانت هذه الثواني التي تنسل من بين أصابعك ،هي كل رصيدك – بل هي كذلك فعلا – يكون الأمر كما لو أنك في سباق مع الزمن ، وكل ما تملكه هو ثوان لتنقذ ابنك الوحيد من ما يسمونه (موت محقق ) – يكون الأمر عندما تشعر دوما أن ” الباقي من الزمن ساعة ” ، وأنك دخلت دوما في الوقت الضائع ، وأن عليك أن تنجز وتنجز وتنجز ، بينما رصيدك يتسلل من بين أصابعك ..
لا أحتاج هنا للدخول في مجال التنظير والتأصيل القرآنيين لعقيدة ” الوقت ” – فذلك كان موجودا طوال الوقت ، لكن المؤسسة الدينية التقليدية أهملته ، فالإبقاء على زمن الرعيان أفضل وإقحام “المسح على الجوربين ” في هوامش العقيدة أمر تفضله المؤسسة بالتأكيد .
كان الأمر موجودا دوما ، في ثنايا الخطاب القرآني ، لكن الكل التفتوا لكل شيء عداه ..
إلى أن جاء مالك ، وصاح ، كما أرخميدس ، ” وجدتها ! .
متى نجده نحن؟
.. واليوم ، صار على جيلي أن يطلق نفس الصرخة الأرخميدسية ، ليس على الوقت ، ولا على معادلة الحضارة ، ولكن على مالك ، على ذلك ” الباردايم المختلف ” – على مفهوم ” الإسلام الحضاري ” — المختلف عن كل ما سبق : الإسلام السياسي أو الوعظي أو التقليدي .. أو أي مسمى آخر ..
صار على جيلي أن يلتقي بفكر مالك ، لا لقاء الصدفة العابرة عند بائع الكتب المستعملة ، ولا لقاء الثقافة والإطلاع وزيادة المعلومات العامة ، بل لقاء الحتمية ، لقاء الخروج من النفق المظلم الذي دلفنا إليه منذ قرون ..
و سيكون من المضحك التصور أن لدى مالك خطة جاهزة للتطبيق ، أو حتى مشروع كامل.
صار على جيلي أن يكمل هذا التحول ، تحول باردايم ” الإسلام الحضاري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:موقع القرآن من أجل النهضة