“مالك بن نبي” مفكر جزائري قضى حياته مجاهدا من أجل حضارة إسلامية خالدة

عدد القراءات :3864

“مالك بن نبي مفكر جزائري، قضى حياته مجاهدًا من أجل حضارة إسلامية خالدة” ..
بهذه الكلمات افتتح الدكتور محمد العبدة، المفكر السوري المعروف، الندوةَ العِلْمِيَّة التي أقامها مركز الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية في القاهرة، والتي جاءتْ تحت عنوان “محمد بن نبي..المفكر”.
وكشف العبدة عن أن البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها “مالك بن نبي”، كان لها بالِغُ الأثر في حياته الفكرية فيما بعد، فمالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي ولد في مدينة تبسة في الشرق الجزائري عام 1905لأسرة فقيرة، حيث كَفَلَهُ عمله في مراحل التعليم، وبسبب حالة الاحتلال التي كانت تعيشها الجزائر في ذلك الوقت لم يُقْبَلْ بن نبي، بعد انتهائه من المرحلتين الابتدائية والإعدادية، في الثانوية، فدرس في معهد وتخرج كمساعد قضائي؛ حيث عمل مُتَطَوِّعًا بسبب عدم وجود وظائف.

حياة مُتَنَقِّلَة
وأوضح الدكتور العبدة أن بن نبي عاش فترةَ شَبَابِه في الجزائر، ثم انتقل إلى فرنسا، ثم مصر، ثم رَجَعَ إلى الجزائر مرةً أُخْرَى :
1 ـ البداية في الجزائِرِ:
بعد أن أنهى بن نبي دراسَتَهُ، عُيِّنَ في مدينة “أوفلو” غرب الجزائر؛ حيث تأثَّرَ كثيرًا بالحياة القروية الهادئة في هذه البلدة التي كان أَهْلُهَا يدافعون عن أرضهم، ويزرعونها ويُكْرِمُون ضيفهم .
2 ـ في فرنسا 1930 : 1960
لم ينبهر مالكٌ بفرنسا؛ لأن ثقافته الفرنسية كانت بمثابةِ مناعةٍ له، وكانت الصدمة عندما فَشِلَ في الالتحاق بمعهَدِ الدراساتِ الشرقيةِ، بسبب كونه مُسْلِمًا، فالتحق بمعهد اللاسلكي، وتخرَّجَ منه مهندسا كهربائيًّا، وهو ما كان له بالِغُ الأَثَرِ أيضًا على نظرياتِهِ الفِكْرِيَّةِ فيما بعد .
وهنالك في فرنسا تزوَّجَ من مهندسة فرنسية أسلمتْ، وغيرتْ اسمها إلى “خديجة”، وكان لها دَوْرٌ كبير في تقوية الإحساس بالجمالِ لديه.
ولم يكن مالك غائبا عن الشأن الوطني الجزائري وهو في فرنسا، حتى عندما شَكَّلَتْ بعض القوى الجزائرية وفدًا يَذْهَبُ إلى فرنسا للمطالبة بحق الشعب الجزائري، انتقد مالك هذا الوفد، وقال: إنّ الحَلَّ ليس في هذا، ولكنه في ضَمِيرِ الأُمَّةِ الجزائرية .
وفي سبيل هذه الغَايَةِ الفكرية الكبيرة ألَّفَ مالك بن نبي كُتُبًا، منها : “الظاهرة القرآنية”، وهو من أبرز كتبه، و”شروط النهضة”، وكُلُّها بالفرنسية، وقام على ترجمتها فيما بعدُ الدكتور عبد الصبور شاهين، وقدَّم لكتاب الظاهرة القرآنية العلامة الكبير أبو فهر محمود محمد شاكر.
3 ـ في القاهرة 1961 : 1962
وبعد مؤتمر باندونج عام 1956 ألَّفَ مالك بن نبي في عام 1956 كتاب “فكرة الإفريقية الآسيوية”، وذلك بعد مؤتمر باندونج، وتبنت القاهرة الكتاب، وطَبَعَتْه، ووُزِّعَ على نطاق واسع.
ولا يعرف الكثير عن أحوال مالك في القاهرة، إلا أنه كان يشارك في ندوة يحضرها بعض طلاب العلم من المصريين والعرب الذين يدرسون في مصر، وكان ذلك سبيلا في توثق علاقته بأبي فهر محمود محمد شاكر رحمه الله.
وتمر الأيام ويترك مالك زوجته الفرنسية؛ ليتزوج جزائرية، ويرزق منها منها 3 بنات .
4 – العودة إلى الجزائر مرة أخرى : 1962 – 1973
عاد مالك بن نبي إلى الجزائر مرة أخرى بعد استقلال البلاد عام 1962، وإن كان استقلالًا غير تام، أو كما يسميه البعض “احتقلال”! وعُيِّنَ مديرًا للتعليم العام في الجزائر، ثم ما لبث أن استقال إثر خلافٍ بينه وبين الحكومة، وتَجَمَّعَ حوله الكثير من الشباب .وفي عام 1971 زار بن نبي سوريا ولبنان، وألقى بعض المحاضرات، وفي عام 1972 أدى فريضة الحج، ثم وافاه الأجل عام 1973 .

تكوينه الفكري والثقافي
وفيما يتعلق بتكوين مالك بن نبي الفكري .. قال الدكتور العبدة : إن التكوين الفكري والثقافي لمالك بن نبي كان يسير في خطين متوازيين، هما:
1 ـ التكوين الإسلامي العربي في الجزائر؛ حيث قرأ كُلَّ ما وقع تحت يده من كُتُبٍ وصُحُفٍ عربية وهو طالب في المعهد، وإن كان قليلًا، نظرا لأن الجزائر في تلك الفترة كانت تحت الاستعمار الفرنسي، وكانت الكتب والمراجع والصحف العربية التي تصل إلى الجزائر، في ذلك الوقت، قليلةً . إضافةً إلى قُرْبِه في فرنسا من “حمودة الساعي”، والذي كان يدرس “فلسفة الغزالي”؛ حيث تأثر به مالك كثيرًا .
2 ـ أتاح له وجوده في فرنسا قراءةَ الكثير من كُتُبِ علم النفس والاجتماع والتاريخ، وهو ما أعطاه بُعْدًا كبيرًا جِدًّا، فضلًا عن كونه مهندسًا كهربائيًّا يمتلك عَقْلِيّةً عِلْمِيّةً جادَّةً .
ومع أن ثقافة بن نبي الشرعية كانت ضعيفة ، إلا أنّ تَأَمُّلَه في القرآن كان قويًّا جِدًّا، كما تميز بن نبي بشخصيةٍ عاطِفِيَّةٍ وعميقةٍ جِدًّا في تحليل الأفكار التي تلوح بذهنه .

مؤلفاته
ثم تحدث الدكتور العبدة عن أهم مؤلفات “مالك بن نبي” :
1 ـ كتاب “الظاهرة القرآنية”:
وكتبه بن نبي نتيجةً لشعوره بالعجز عن معرفة الإعجاز البلاغي والبياني في القرآن الكريم، فحاوَلَ إيجادَ وجهٍ آخَرَ للإعجازِ، بحيث يستوعبه الجزائريون الذين لا يتقنون اللغة العربية جَيِّدًا، فجاء بِوَجْهِ إعجازٍ آخر في مسائل أخرى، مثل “التدين، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم…..إلخ”.
2 ـ كتاب “شروط النهضة”:
والذي تحدث فيه بن نبي عن حاضر العرب ومستقبلهم، وعن “دور الأبطال”، فهو يرى أن هناك جهادًا ضد الاستعمار، ولكن ليس هناك دراسة عميقة حول أسباب وجود الاستعمار، وكيفية إخراجه.
كما يشير مالك في هذا الكتاب إلى أن فرنسا أَغْرَقَتِ الجزائر بحمى الانتخابات، كما تحدث عمّا أسماه بـ” التكديس والبناء”، وأنّ الحضارة هي التي تصنع الأشياء، وليست الأشياءُ هي التي تصنع الحضارة .
3 ـ كتاب “وجهة العالم الإسلامي”:
والذي تحدَّثَ فيه عن حال المسلمين وواقعهم ما بعد “دولة الموحدين”، فهو يعتبر أن الحضارة الإسلامية توقفتْ بعد دولة الموحدين في المغرب. ويرى مالك في هذا الكتاب أن الحضارة لها ثلاث مراحل، هي :
الوهج أو الاندفاع، ثم الاستقرار أو الفعل، ثم الغرائز، وهنا يفقد المجتمع تماسُكَهُ الاجتماعي، وفي هذه الحالة فإن المجتمع لا يستطيع النهوضَ بِمُفْرَدِهِ، ولكنّ “الإيمان” هو الذي يمكن أن يرتقي بالمسلمين مرة أخرى إلى مرحلة الوهج أو الاندفاع .
ويشير بن نبي في هذا المؤلف إلى أن هناك تيارَيْنِ يُمَثِّلَانِ وجهة العالم الإسلامي، هما:
1 ـ تيار تجديدي: مثل أحمد خان في الهند، والذي بدأ يُفَسِّرُ القرآن كما تريد بريطانيا، فألغى آيات الجهاد وأبطل المعجزات!!
2 ـ تيار إصلاحي: وهو ذلك التيار الذي شَقَّ طريقه منذ ظهور ابن تيمية، مثل شق الأرض بالماء الذي ينبجس هنا وهناك .
4 ـ كتاب “فكرة الأفريقية الآسيوية”:
فهو يدعو إلى اتحاد إفريقي آسيوي يُسَمَّى “كومنولث إسلامي “، بحيث يُشَكِّلُ رابطةً- ولو صغيرة- على طريقة الكومنولث البريطاني . وينتقد بن نبي مَنْ يَرْفُضُ هذه الفكرة أو يصفها بالخيالية، مثل فكرة اتحاد الدول العربية .
5 ـ كتاب” الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”:
وهو أوَّلُ كتاب ألَّفَهُ مالك بن نبي باللغة العربية، ويرى فيه أن السؤال ليس: لماذا يوجد استعمار أو ظُلْمٌ في العالم، وإنما: لماذا نحن المسلمون مُسْتَهْدَفُون دون غيرنا من البشر بهذا الظلم أو الشر ؟!!
6 ـ كتاب “المسلم في عالم الاقتصاد”:
ويُؤَصِّلُ مالك في هذا المؤلف فكرة أن يكون لنا نحن المسلمين أو العرب اقتصادُنا الخاص بنا، بحيث يكون اقتصادًا أخلاقِيًّا إسلاميًّا لا اشتراكيًّا ولا ليبراليًّا . كما يرى بن نبي أن البداية في هذا الإطار تكون بالزراعة والإنتاج .

أفكاره الأساسية
وفيما يتعلق بأفكار مالك بن نبي الأساسية في كتبه، أوضح الدكتور العبدة، أن هناك العديد من الأفكار، منها:
1 ـ فكرة النهوض :
وتقوم على أن مشكلة المسلمين هي مُشْكِلَةٌ حضارية بالدرجة الأولى، فالحضارة عنده هي “مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تُتِيحُ للمجتمع أن يُقَدِّمَ لكل فرد من أفراده الحاجةَ الأساسِيَّةَ الضرورية ” . بخلاف ابن خلدون الذي يرى أن الحضارة هي التَّرَفُ الزائد .
ولذلك حدث خلاف بين بن نبي وسيد قطب، فالأخير ألّف كتابًا أسماه “نحو مجتمع إسلامي متحضر”، ثم حذف كلمة متحضر، وأوضح أن المجتمع الإسلامي مُتَحَضِّرٌ بذاته، فرَدَّ عليه مالك قائلًا: ليس شرطًا أن يكون المجتمع الإسلامي مُتَحَضِّرًا، وهو ما دفع سيد قطب إلى القول بأن “الإسلام هو الحضارة” .
ووضع مالك معادلة:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت
وأن هذه المعادلة لابد لها من مفاعل، وهو ” الدين”، وهو الأمر الذي انتقده الدكتور العبدة باعتبار الدين ليس مُفَاعِلًا، ولكنه عنصرٌ أساسِيٌّ في المعادلة.. بل هو الأساس .
ـ ويرى مالكٌ أن البُطْءَ في النهوض يرجع إلى:
أ ـ مبدأ اللاعنف :
وهي فِكْرَةٌ أخذها من غاندي، وهذه الفكرة قد تنجح أحيانًا في زمنٍ ومكان معين، ولكنها تُخَالِفُ سُنَّةَ الصراع والتدافع، والتي أشار إليها الله عز وجل في كتابه الكريم، في قوله تعالى ” ولولا دَفْعُ الله الناسَ بعضَهُمْ ببعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ ” .
ب ـ القابلية للاستعمار:
يرى مالك بن نبي أن الشعوب العربية والإسلامية شُعُوبٌ قابِلٌة للاستعمار، ضاربًا مثالا على ذلك باحتلال هولندا- وهي بلد صغير- إندونيسيا، في حين تفشل بريطانيا- وهي دولة عظمى- في إخضاع الأيرلنديين! ويشير بن نبي إلى أسباب هذه القابلية، مُرْجِعًا إياها إلى قِلَّةِ العلم، وتَوَهُّمِ قوة الاستعمار، وخيانة البعض للوطن!
2 ـ فكرة الخلل فكري:
وتقوم على أننا نعاني من وجودِ تهوينٍ لبعض الأمور واستسهالٍ لها، على الرغم من صعوبتها، وضرب مثلا لذلك بتهوين العرب من أمر دخول بَعْضِ اليهود إلى الأراضي الفلسطينية في عام 1948، ونظرتهم إليهم بأنهم مجرد شرذمة سيتم طَرْدُهُم في أي وقت .
3 ـ فكرة التكديس:
أو كما يسميه بن نبي بـ”طغيان الأشياء”، وهي فكرةٌ تقومُ على أنّ تكديس الأشياء هو الحضارة، وهي فكرة خاطئةٌ؛ لأن الحضارة هي تصنيعُ الأشياءِ وإنتاجُها، لا استيرادها وتكديسها .
4 ـ فكرة “طغيان الأشخاص”:
وهي تقوم على أن المسلمين ينتظرون ذلك البطل الذي سيأتي ويأخذ بأيديهم وينصرهم على أعدائهم، فهم دائما بانتظار “صلاح الدين”، لكي يأخذ بأيديهم .
5 ـ فكرة “طغيان الأفكار”:
وهي تقوم على أن البعض قد يُرَكِّزُ على فكرة معينة أو قضية معينة ويعطيها قَدْرًا أكبر من قدرها الطبيعي، وليس لها وجودٌ الآن، وهو ما أسماه مالك بن نبي بـ”الهروب”.
6 ـ فكرة “العقلية الذرية”:
وهي تقوم على أن المسلمين لا يستطيعون في كثيرٍ من المواقف أن يروا الصورة كاملة، ولكنهم يجزئونها إلى ذرات، وينظرون إلى كُلٍّ على حدةٍ دون الرَّبْطِ بين الأحداث، فالعقلية الإسلامية كما يرى مالك بن نبي، هي عقلية “مُجَزَّءة”.

طوق النجاة
وفي النهاية، عرض الدكتور العبدة، للوسائل التي وضعها مالك بن نبي من أجل الإقلاع عن العيوب التي تعتري المجتمعات العربية، والتي من شأنها الارتقاء بالحضارة العربية، وتُعَدُّ بمثابة “طوق النجاة”، وهي :
1 ـ التمسك بالإيمان
2 ـ إيجاد شبكةٍ قَوِيَّةٍ من العلاقات الاجتماعية، مثل تلك التي كانتْ في المجتمع الإسلامي الأول.
3 ـ المطالَبَةُ بالحقوق مع القيام بالواجبات.
4 ـ الرُّجُوع إلى شيءٍ من الفطرة، وأن يكون ليدينا استعدادٌ حقيقي للخَوْضِ في غمار تكوين حضارة جديدة .
5 ـ الإيمان بأن الحضارة هي التي تَبْنِي وتُنْتِجُ، وليست التي تُكَدِّسُ .
وفي النهاية أكد الدكتور محمد العبدة أن هذا يدعونا إلى قراءة مالك بن نبي، قراءةً واعِيَةً مُتَدَبِّرَةً؛ لما في كتبه من الفِكْر والزَّخَمِ العِلْمِيِّ الكبير .

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.