مالك بن نبي ومشكلة الاستشراق : أو نحوتجديد الفعالية في زمن الصراع الفكري.

عدد القراءات :2180

د.عبد الرزاق بلعقروز
Abderrezak19@yahoo.fr

مرادنا في هذا المقام التحليلي الأخ الوقوف على قراءة تسترشد برؤية مغايرة وتتفرد بالتنبيه على منطقة هي لا مفكر فيها إذا ما تمت مقارنتها بأعراف وتقاليد المقاربات المتداولة حول الخطابات الإستشراقية ، أقصد بذلك استكشاف البعد الاجتماعي للخطاب الإستشراقي.أي: بأي معنى يمكن تخريج دلالة الإستشراق سواء في شقه المنتقد للحضارة الإسلامية أم في شقه المادح لقيمها، الممجد لإنتاجاتها، باعتباره خطابا يتجاوز المستوى الابستمولوجي ليؤثر في طبقات الوعي الاجتماعي المترسبة و الراهنة، ثم تأويله من الزاوية الاجتماعية بخاصة في مستوى منطق الفعالية و الحيوية أو منطق الحرمان و الارتكاس.
تجدر الإشارة أولا إلى أن هذه القراءة التي تستكشف القيمة الاجتماعية للإستشراق كان قد طورها فيلسوف الحضارة الجزائري مالك بن نبي (1905-1973)، في كتيب كان قد ضمنه تلامذته في كتاب سمي “بالقضايا الكبرى”، إنها كبرى بوصفها تتعرض إلى المحددات الجوهرية و الفاعلة في البناء الحضاري الحديث وآلية تشكله، وهي أيضا لا زالت مشكلات، بما أنها لم تسترشد بالمسلك المنهجي الحقيقي الذي يعيدها إلى التاريخ ويبعث فيها الإرادة الحضارية التي تلد إمكانها الحضاري من ذاتها وليس فيضا عن غيرها؛ هذه المشكلات هي: مشكلة الحضارة، مشكلة الثقافة، مشكلة المفهومية، وفصل آخر هو مدار تحليلنا عنوانه “إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث”.
يبتدأ هذا الكتاب بوضع تعريف اصطلاحي لمفردة “المستشرقين”؛ “إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي و عن الحضارة الإسلامية، ثم علينا أن نصنف أسماءهم في شبه مايسمى (طبقات) على صنفين:
أ-من حيث الزمن: طبقة القدماء، مثل، جربر دوريياك و القديس توما الإكويني، وطبقة المحدثين مثل:كاره دوفو وجولد تسيهر.
أ-من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتاباتهم: فهناك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية، وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها”1
إن مالك بن نبي في هذا التصنيف الطريف، بخاصة التقسيم الذي وضعه للاتجاه العام نحو الإسلام و المسلمين يرى بأن مدار تحليله سيركز على طبقة المادحين، لا طبقة المنتقدين التي كان لها بعض الأثر في توجيه الأقلام، وإنشاء مركب النقص الذي أيقظ عاطفة الدفاع عن الكيان الثقافي للأمة، بخلاف طبقة المادحين التي لم تجد في نفوسنا أي استعداد لرد الفعل، وكأن مبرر الدفاع فقد جدواه، وأصبح لهذا السبب معطلا في نفوسنا.
إن لغة المدح التي اختص بها هذا الخطاب تجد منبتها فيما كتبه هؤلاء المستشرقين عن المسلمين و الحضارة الإسلامية، مثل رينو الذي ترجم جغرافية أبي الفداء في أواسط القرن الماضي، ومثل دوزي الذي بعث قلمه قرون الأنوار في إسبانيا، و مثل أتين بلاثيوس الذي كشف عن المصادر العربية للكوميديا الإلهية.
إن مالك بن نبي سيقرؤها من الزاوية السوسيوبسيكولوجية، و في مستوى أثرها على تطور أفكارنا وثقافتنا، وما كان لها من أثر مرضي على هذا التطور.
فإذا كانت أوربا قد اكتشفت الفكر الإسلامي في لقائها الأول مع توما الاكويني من أجل إثراء ثقافتها، فإنها في الفترة الحديثة أعادت اكتشافه ليس من أجل تعديل ثقافي أو إثراء معرفي يسهم في التغيير كما كان في الخطاطة الأولى، إنما كان من أجل هدف سياسي وإرادة استعمارية، اقتضتها ضرورة وضع الخطط و معرفة التركيبة الاجتماعية لهذه الثقافات، أي أن المعرفة هنا لا تقول الحقيقة طالما هي متحالفة مع إرادة القوة.
وفي ظل هذه العلاقات المتوترة بين العالمين: الإسلامي و الغربي، نشأت مركبات نفسية أرادت مواجهة هذا المركب من ناحية، وإرادة التغلب عليه من ناحية أخرى.
فئة يرى م- بن نبي أنها بحثت عن نجاتها في التزي بالزي الغربي و انتحال أذواقه و سلوكه حتى و لوكانت ليست إلا مظهرا لاشيء وراءه حقيقيا من القيم الحضارية الغربية الفاعلة و الحقيقية.أي تلك التي أسهمت في النهضة الأوروبية.
و” أما التيار الثاني – وهو موضوع حديثنا لاتصاله بإنتاج المستشرقين فإنه وجد منحدره الطبيعي في أدب الفخر و التمجيد، الذي نشأ منذ القرن التاسع عشر على أثر ما نشر علماء مستشرقون، أمثال دوزي عن الحضارة الإسلامية”2
إن مالك بن نبي لا يبخس القيمة العلمية لهؤلاء المستشرقين ودقة بحثهم وشغفهم بالحضارة الإسلامية، وهو نفسه على مستوى دائرته الشخصية قرأ أمجاد الحضارة الإسلامية كمقدمة ابن خلدون في ترجمة دوسلان.
لكن، وعلى ضوء تجربة الحياة الخاصة لابن نبي وبعد تجاوزه الستين تبدل نظام التقدير تجاه هذا الإنتاج، لأن الوجهة هنا قد تغيرت على مستوى الإرادة الحضارية والإمكان الحضاري للمجتمع الإسلامي، فإدراك أثر الإستشراق لم يعد على المستوى الشخصي، إنما في النطاق الشامل للمجتمع الإسلامي وصيرورته التاريخية، فمساوئ هذه الطريقة بدت أكثر من حسناتها، أما مبررات هذا الموقف، فإن مالك بن نبي يقدمها إلينا في صورة بيداغوجية طريفة:
” إننا عندما نتحدث إلى فقير، لا يجد مايسد به الرمق في يومه، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر يعزل فكره مؤقتا وضميره عن الشعور بها، إننا قطعا لا نشفيها، فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه، و لا شك أن أولئك الماهرين في فن القصص قد قصوا للأجيال المسلمة في عهد مابعد الموحدين قصة ألف ليلة وليلة، وتركوا بذلك أثر كل سمر، نشوة تخامر مستمعيهم حتى يناموا فتنغلق أجفانهم على صورة ساحرة لماض مترف”3
إن مالك بن نبي يوظف آلية التحليل النفسي لفك الارتباط بين وهن الإرادة وخورها، وبين الإسهام الإستشراقي في إضفاء الوهم المعرفي على هذا الوهن و الارتكاس، فالقطع هنا هو أن تمجيد الماضي سيكون على حساب الحاضر و المستقبل، لأن هذه الجماهير التي نامت تسليا بأمجاد صانعي ماضيها، سوف تستيقظ لتفتح أبصارها من جديد على مشهد الواقع القاسي الذي تتكلمه لغة الحياة و تتبدى فيه مظاهر الأزمة الحضارية.
غير أن هذه القراءة الكاشفة لقناع الطبقة الممجدة للماضي بماهي طبقة تصرفنا عن الحاضر، نجدها(أي قراءة مالك بن نبي)، تمضي إلى ما هو أبعد من هذا؛ فإلى جانب أنها صبت في هذه الشخصية الإعجاب بالشيء الغريب، ولم تطبعها بما يطابق العصر من فعالية و إنجاز، فهي منخرطة في لعبة الصراع الفكري من وجهتين :
_ من وجهة كونها أدركت حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها.
– من وجهة إمكان استغلال هذه الحساسية لإلفات تلك الجماهير عن حاضرها.
لتنتهي القراءة البنابوية الكاشفة عن القيمة الاجتماعية السلبية للخطاب الإستشراقي إلى أن الإنتاج الإستشراقي في كلا نوعيه المادح و المنتقد ” كان شرا على المجتمع الإسلامي، لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواء في صورة المديح و الإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد و الإقلال من شأننا بحيث صيرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار، مجتمع مابعد الموحدين، بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة … “4
إن أساس نقد الإستشراق والانتهاء إلى هذه النتيجة لا يجد مبرراته في موقف معرفي أو تأسيس ابستمولوجي سواء في تشخيص الخطاب الإستشراقي المادح أو نقيضه المنتقد و المفند، بل يجده في تحد إيطيقي حيوي لأنه يريد تحرير الإرادة من هيمنة الآخر والخروج من منطق الاستجابة العفوية عما يقوله الغربي عن متخيله إلى منطق الفعالية وتجديد الإرادة والإبصار الدقيق بآليات الصراع الفكري و ألاعيبه في إخفاء ذاته وسلطته، ثم الشروع في تأسيس الثقافة على المقومات الذاتية و الأصالة الفكرية، لذلك فإن-م- بن نبي رغم أنه لم ينخرط مع الاستشراق من منظور المقاربة الإبستمولوجية نقدا وتفكيكا كما قلنا، إلا أن نتائج هذه القراءة تتفق مع فتوحات المعرفة الإنسانية المعاصرة بخاصة انثربولوجيا الثقافة، واللسانيات التداولية وذلك “من جهة أن نظام قيم ما لا يتمتع بأية قيمة من وجهة نظر المبادئ النظرية المجردة، ولا يمكن أن يفهم إلا من داخل النسق الاجتماعي الذي يعطيه أو يمنحه معناه ووظيفته”5
الهوامش:
ـــــــــــ

1- مالك بن نبي : القضايا الكبرى، دار الفكر، سوريا، ط6، 2008ص 167.
2- مالك بن نبي: المرجع السابق ص 171.
3-المرجع السابق: ص 172.
4-المرجع السابق، ص 181.
5-أنظر : عبد الإله بلقزيز: في البدء كانت الثقافة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء المغرب، 1998، ص 113، وما بعدها.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.